ديرة الطيبين / بقلمي : اشتياق السيف
..
في خيالها الذي ينقلها دوما للأيام الماضية و الليالي
الخوالي حيث قريتها الوادعة تناهى لها صياح الديكة رغم أنها تعي تماما بأنه
صوتا بدأ يتلاشى من مدينتها التي استبدلته بوسائل التواصل الاخرى و أصوات آذان من
أجهزة الهواتف الذكية التي اصبحت تفعل كل ما يفعله الانسان بل و تتفوق عليه في بعض
المهارات ..
بدأت صباحها الذي اختلف عن كل صباح .. يضج بعبق
الذكريات الجميلة التي تغفو عليها جزيرة هادئة تخبئ تاريخا مجيد و لآلئ ماض نادر
أن يكون له شبيه و لأن لنا نصيبا من توفيق إلهي في زمن البراءة أفخر بفوزي به مع
ثلة من صبايا الديرة اللاتي يخرجن من مجلس تعليم القرآن الكريم بإدارة أم مجيد بنت
شيخ منصور ال سيف و يتجمعن في بستان بيت الحداد ليقضين ما تبقى من سويعات
نهار صيفي طويل في اللعب و اللهو البريء . صبية قد صنعت لها أرجوحة من سعف
نخلة ضاربة في القدم منتصبة القامة تتحدى الزمن تأرجح أحلامها في كل اتجاه تقذف
بها تلك السعفة التي تتشبث بها بكلتا يديها .. و أخرى جمعت صحون بيتها و
قدور معدنية في آنية كبيرة و بعثرتهم حول الجدول الصغير الذي ينساب بمياهه الصافية
كاشفا عن لجة رقراقه رغم ما خبأه في قاعه من بقايا مخلفات معدنية و قطع زجاج ملونة
و بقايا أثواب اهترأت لطول إقامتها تحت الماء ..
النخيل التي تحيط بالبستان تشكل
سورا منيعا و ترسم حدودا لا يمكن تجاوزها من الاغراب ..هي حدود طبيعية سورت ساحة
جميلة و شكلت سترا لفتيات ليس لهن ملتقى أجمل من بستان بيت الحداد و مرتفعات تنتهي
إلى كنز تاروت الأثري الذي يكتنفه غموض أثار فضول الصغار و دفعتهم روح
التحدي كي يحاولوا سبر اغواره و كشف أسراره. .
البعض لا يمكنه أن يعيش جمال هذه
الأماكن و يشعر بروعتها في صخب الحياة في الوقت الحاضر و التي أصبحت تستقبل
كل غث و سمين مما هو جديد فشوه براءته و غير معالمها الطبيعية ..اعشى
ابصارهم بريق التقنية و جنون الابتكار التكنولوجي فأفقدهم الإحساس بعظمة التراث
الشعبي الجميل و رائحة الماضي التليد ..
الحنين للماضي خير دواء لداء
الإرهاق من زمن تنكر لكل ما مضى حتى الأرواح التي غادرت و فاضت إلى بارئها محلقة و
خلفت أجساد توارت في بطن الأرض و قد كانت تدب على ظهرها ..
هي تعيش لوعة الافتقاد
لكثير من الناس الذين رافقوا سنوات عمرها الخمسون و احبتهم و قاسمتهم لهو
الطفولة و براءاتها و شاركتهم غزل الاحلام و نقشها على رمال المزارع المجاورة و
البساتين التي تضج بالحياة ..و حين تقدم بها العمر عبثا حاولت أن تجدهم في الأماكن
التي شهدت شقاوتها البريئة و مقالبها الفكاهية التي تنتهي بضحكات أنثوية لا تتعدى
اسماع الصبايا حولها .
حنين الى زمن يخلو من الأنين
..محاولات يائسة لاستدعاء صور طفولية و أخرى مراهقة لزمن مضت سنواته و بقت ذكرياته
نقش تشهد عليها آثار الفينيقيين التي ترتفع قامتها عاليا فتجتذب لها
المعجبين الباحثين عن نقاء الماضي و براءة النفوس الطيبة حين رحلت أرواحهم و بقى
صيتها العطر و آثارها الجميلة .
دمتي جزيرتي الجميلة ..مسقط رأسي و
مهد طفولتي و صانعة الرجال الذين يرتقون منابر النور عشقا لمن أرسى قيم الخلود و
البقاء و نساء عظيمات خالدات في الذاكرة امتهن تعليم كتاب الله تلاوة و حفظا و
تفسيرا و تجويدا يتناسب مع هدايتهن بالفطرة و علومهن المتوارثة ..
قبل ايام ذهبت لذات المكان
اتتبع خطوات طفولتي ،هنا تمرجحت هنا وقفت تحت الظلال الوارفة ،هنا تساقطت علينا
رطبات الصيف ، اغمضت عيني وانا انادي صديقاتي ، لا لا تعالي هنا ، لالا اراك من
وراء جذع النخلة ، فتحت عيني لكن لا مجيب الى مناداتي ، اين ذهبن صديقاتي ،
هل هن ذهبن الى بيت العود ليتدارسن جزء تبارك ؟ إنه محطة قرآنية مقدسة ..تخالنا
انجزنا سبقا عظيما اجابني صياح الديك هن شغلتهن الحياة ..جدتي التي
لم يزل صوتها الوقور يملؤنا غبطة و سعادة و لم تزل رائحة البخور تملأ مكانها
..
كم افتقد هذا الزمن الجميل .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق