بقلم / اشتياق ال سيف
8 فبراير 2016
***********
بنظرات ملؤها الحب و الحنان ممتزجة بالقلق و الخوف من المجهول ودعت
( سعاد ) ابنتها الوحيدة التي كانت ترقد على سرير ابيض و تقاسمها في تلك الغرفة
الكبيرة أكثر من مريضة جمعهن المرض و الألم رغم اختلاف أعمارهن و بيئاتهن و
المستوى التعليمي لدى كل واحدة منهن .
كانت تلك هي المرة الأولى التي تغادر فيها ابنتها ( أماني )
المنزل و تنام في غرفة تختلف عن غرفتها التي تتقاسمها مع والدتها فقط ..تلك الام
التي كانت كل عالمها منذ توفي أبوها و رحل تاركا طفلة بعمر التاسعة ظلت تبحث عنه
طويلا حتى أيقنت ان لا عودة لكل الراحلين إلى العالم الآخر لكنهم باقون في
قلوبنا بأعمالهم مخلدون بسيرتهم الجميلة ..و بدأت تعتاد على حياتها مع
والدتها فقط إذ كانت لها الأم التي تحتضن كل مشاعرها و تتفقد احتياجاتها و تحتويها
من نظرة عينيها دون ان تصرح لها بكلمة فقد كانت الفتاة قليلة الكلام هادئة
الطباع ..كانت المرشدة التي تنصحها و توجهها لحسن التصرف في كل المواقف التي
تقف عندها حائرة ..كثيرا ما كانت ترتب تلك الفوضى الفكرية التي تتعشش في عقلها
و تعصف بوجدانها و كانت الأب الذي يحميها و يخشى عليها من تلك العيون
الجائعة و النفوس التي تتلون بكل لون حتى تستدرج فرائسها من الفتيات
لا سيما أولئك الذين يتعاملون بحسن النوايا ..كانت تستميت في تحقيق كل ما
تتمنى رغم ضيق سعتها و ضعف حالها و لكنها لم تشعر ابدا بالحاجة ..كانت
لها الصديقة المقربة التي تبثها لواعج اعماقها و كانت تحكي لها حكايات جميلة
عن شبابها و مراحل حياتها .
كل هذا الشريط الذي اختصر حياتها مر أمامها في دقائق
معدودة شردت بخيالها تاركة العنان لسيل من الدموع يشق له اخاديدا على وجنتين ترك
الزمن آثاره فيهما ..
غادرت المستشفى بعد أن احتضنت وحيدتها التي لم تعد طفلة كما كانت
حين فقدت والدها فقد مر على وفاته 8 سنوات .. امطرتها بوابل من
القبلات و أوصتها الا تتحدث للغرباء عن حياتهما الأسرية مهما سمعت من احاديثهن
التي لا تخرج عن إطار الشكوى و التذمر من أوضاع المستشفى الذي يفتقر
لكل وسائل العناية الطبية و الرعاية الصحية ..
و بين حين و آخر تتناهى لسمعها آهات و نوبات بكاء متقطعة حين تهجم
الآلام على إحدى المريضات فتستغيث بإحدى الممرضات تسعفها بمسكن للألم
علها تهدأ و تنام ..
كانت تلك الليلة طويلة بدت لها سنوات عجاف..و كأن المسافة بينها و
بين والدتها آلاف الأميال ..
تململت في جلستها ..ثمة أمر يقلقها ..يأخذ كل تفكيرها ..سلبها كل
ألوان الراحة حتى أقض مضجعها و لأسابيع طويلة بدت شاردة بتفكيرها طوال
الوقت ..تلوذ بالصمت كلما سألتها والدتها بقلق عما تعاني ..كانت تشفق عليها ان
تكابد أي ألم بمفردها فهما منذ ولادتها يتقاسمن كل شيء غي المنزل و خارجه و يلتقي فيه
لك الميول و الرغبات و التفكير ..ببساطة كانت الفتاة نسخة مصغرة من والدتها لانها
كانت نتاج تربيتها ..أحضرت والدتها المستشفى بعد حالة إغماء سبقتها أياما
كانت فيها شاحبة لانها لا تشعر برغبة حتى في الأكل فلا تتناول إلا ما يسد
جوعها بعد إلحاح والدتها ..لم تكن تنام حتى ساعة .
الندم يجلدها بسياطه و صوت النفس اللوامة يصرخ في اعماقها ..
كيف تجرأت؟ كيف استطاعت ان تخفي عن أمها كل ما حدث لها ؟ لماذا لم تهرب كعادتها
إلى ذلك الحضن الدافئ الذي طالما احتوى أوجاع الصغيرة حين تدفن رأسها فيه و تبكي
فيها حين تتلاعب والدتها بخصلات شعرها الناعم حتى تهدأ و تنام ..كانت تفعل ذلك حتى
وقت قريب فلم يكن أحد أقرب إلى أنفاسها من تلك الأم الحنون ..
تتساءل بينها و بين نفسها في يأس و استسلام .. هل الحب قدر
ليس لنا أن نتجاهله او نقاومه ؟؟هل لابد لنا أن نستسلم لتلك المشاعر المحمومة التي
تجتاح قلوبنا الرقيقة كالاعصار الذي يقلب كيان كل عاشقة و يحيلها إلى كتلة من
الضعف و كأن مركز العالم هو ذلك الفتى الذي تهيم به شغفا و لا ترى في عالمها سواه
؟ هل يجب على كل فتاة ان تخوض هذه التجربة العاطفية ؟ أم أنه اختيار يمكن
للانسان أن يقرر تجاهه ما يشاء لأن مشاعره جزءا لا يتجزأ من حياته و لا يمكن الا
تؤثر على بقية نواحيها ..
تشعر أماني أن في عقلها قنبلة موقوتة تكاد تنفجر بضغط التفكير و
مشاعر الندم و الألم و الخجل من والدتها لانها أخفت عنها تلك التجربة المريرة التي
عاشتها حين أساءت استخدام هاتفها النقال و بالصدفة تعرفت على شاب تراءى لها للوهلة
الأولى انه فارس أحلامها لكنه لم يكن سوى أحد العابثين الذي تمرس التلاعب بقلوب
بريئة طاهرة كقلوب الملائكة .. كان له من أساليب الخداع و التحايل ما أمكنه من
استدراج فتاة لم تكن قد خرجت بعد للعالم الملئ بالذئاب البشرية .. كانت تعيش
الفراغ أحيانا حين تكون والدتها في عملها الذي يتطلب منها حضور بعض الساعات
المسائية كعمل إضافي بالإضافة لوظيفتها في الصباح ..لم تكن أمها تقلق عليها
لانها انشئتها على الصدق و الصراحة و الاعتزاز بالنفس و علمتها الا تستمع
لمثل تلك الأبواق الماجنة و الا تسلم نفسها للغرق في لجج الشبكة العنكبوتية و
برامج التعارف فيها و التي تحاول استغلال الفتيات اللاتي يغتقرن للخبرة و التمييز
..و أحيانا يكون التصحر العاطفي في الأسرة و بعد الوالدين سببا في ضياعهن
.
لكنها كانت تنعم بوالدة متفانية كانت لها أكثر من مجرد وعاء احتواها
و كان سببا لايجادها في الحياة .
كانت تعيش قصة حب جميلة مع والدتها منذ نعومة اظفارها ..إذا لماذا
انساقت خلف تلك المشاعر الكاذبة من طرفه و ان كانت صادقة بريئة من طرفها . هل أن
فقدها لوالدها جعلها تشعر بالحاجة إلى رجل ؟؟لا بالتأكيد ليس ذلك سببا ..هل لانها
الوحيدة فليس لديها أخوة ؟؟ لقد عوضت عدم وجود الأخوات بنات خالتها و زميلاتها
التي كانت لها علاقة وطيدة بهن .. أيقنت تماما أنها مشاعر سرعان ما تتلاشى حين
تفكر بعقلها و ليس بقلبها ..ترى الأمور بعين بصيرتها و ليس بعين تعشق الجمال
الظاهري و لا تعلم عن تلك الخبايا النتنة التي يخفيها خلف استار لا يعلمها إلا
الله ..
غالبها النعاس لشدة تعبها و استسلمت لنوم عميق ..و حين استيقظت
صباحا وجدت أمامها وجها باسما جميلا كملاك رحمة بردائها الأبيض جلست الممرضة
الشابة إلى جانبها لقياس حرارتها و ضغطها و تطمئن على حالتها الصحية ..
و حين انتقلت الممرضة للسيدة التي ترقد على السرير المجاور لها
، فتحت عينيها جيدا و نظرت من النافذة كمن ينتظر قادما ...ابتسمت ابتسامة
زادتها جمالا و تذكرت حلما جميلا رأت فيه والدتها و كأنها تهمس لها بالإجابة على
سؤالها ..
هل الحب قدر لكل فتاة أم أنه اختيار ؟ و هل يمكن ان يكون صادقا بلا
رباط شرعي يجمع بين العاشقين ؟؟
في تلك الليلة التي كانت أول ليلة في حياتها تنام بعيدا عن أمها لم
تكن وحيدة فقد رافقها والدتها و كانت معها طوال الليل بروحها و مشاعرها ..كانت
تطلب منها ان تراقب خطواتها و تحذرها أن تقع في شراك لا تبدو واضحة للوهلة
الاولى..و كأنها تسير باتجاه جذبتها له بعض الألوان و الأضواء ..لكنها كانت تهمس
في اذنيها ..لا يا ابنتي الحبيبة ..ما كل ما يبرق ذهبا و لا تخدعنك المظاهر ..الحب
الذي يبدأ على رمال الشواطئ لا يصمد أمام الرياح و تمحوه حتى مياه البحر ..الحب
قدر ان كان مجرد مشاعر صادقة نابعة من قلب صادق
لأنك فجأة تشعر بأن الله قذف في قلبك هذا الحب تجاه شخص ما
..لكننا نستطيع ان نجعله اختيار لأنك انت من يقرر ان يصرح بالحب ضمن إطاره
الشرعي..أما إن تكون لك صلة مع شخص سيبقى غريبا مهما حاول التقرب و ربما يدفعك ان
تتجاوزي الكثير من الحدود و ترتكبي الكثير من الحماقات معه بحجة الحب و لست
سوى صيدا سهلا له حين تنساقين لصوت العاطفة ...و لو كان له ما للرجال من الغيرة و
صون الأعراض لم يكن ليعرض بضاعته الرخيصة لفتاة التقاها صدفة في عالم افتراضي
و لم تجمعه معها عشرة و سلوك و حياة بكل مسؤولياتها ..
شتان بين قلوب للايجار كل يوم يسكنها أشخاص مختلفون .
قلوب لا تعرف الحب إلا كلمات رخيصة متداولة حتى على جدران الشوارع توصلها
لغاياتها الأنانية ..
و بين قلوب بريئة تعلم ان الحب نور يقذفه الله في قلوبنا كي يتحول
إلى سلوك مؤطر بقيم و مبادئ . قلوب تعرف أن الحب الحقيقي هو حب الأم و الاهل و
الأخوة و الأخوات و من احببناهم في الله ..أما حب فتى لفتاة فلا يمكن
ان يكون حقيقة قبل الزواج و كثيرا ما كان مجرد تجربة عابرة تنتهي بالخسارة الفادحة
غالبا من جهة الفتيات ..
ابنتي الحبيبة ..صوني قلبك الملائكي من تلك المشاعر العابثة .
أخذت نفسا عميقا حين فتحت النافذة فلامس النسيم وجهها الطفولي
الأسمر ..و رددت بصوت منخفض .. (( أمي لا سوى حبك حب ..أحبك كثيرا ))
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق